محبة الصالحين ..بين جفاء الأتراب .. وإفراط الطلاب
كتبه / وائل سرحان
الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، صلى الله عليه وسلم ..أما بعد ..
فعن أبي ذر رضي الله عنه قال : أوصاني خليلي - صلى الله عليه و سلم - بخصال من الخير : "أوصاني بأن لا أنظر إلى من هو فوقي ، وأن أنظر إلى من هو دوني ، وأوصاني بحب المساكين والدنو منهم ، وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت ، وأوصاني أن لا أخاف في الله لومة لائم ، وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مرًّا ، وأوصاني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ؛ فإنها كنز من كنوز الجنة "رواه الطبراني ، وابن حبان في صحيحه واللفظ له ، وانظر صحيح الترغيب والترهيب
عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إني قد أحببت فلانًا، فأحبه، فينادي في السماء، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض، فذلك قول الله، عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا }[مريم : 96]رواه مسلم (2637) "أخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وهي الأعمال التي ترضي الله، عز وجل ، لمتابعتها الشريعة المحمدية - يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين مودة، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه"[ تفسير ابن كثير] .
إنه تبارك وتعالى يجازيهم على أعمالهم الصالحة ومتابعتهم الشريعة بأنه " يحبهم ويُحببهم.. إلى خلقه المؤمنين"[ تفسير ابن كثير].فلهم" الود من المسلمين في الدنيا، والرزق الحسن، واللسان الصادق"[ تفسير ابن كثير].فضلا عما ينتظرهم من جزائه تعالى في الدار الآخرة
وإنه جل جلاله يُحدث لهم هذه المودة في القلوب "من غير تعرضٍ منهم لأسبابها سوى ما لهم من الإيمان والعملِ الصالحِ ، والتعرضُ لعنوان الرحمانيةِ لِما أن الموعودَ من آثارها"[ تفسير أبي السعود].
فهذا الود "يجعله لهم من دون أن يطلبوه بالأسباب التي توجب ذلك ، كما يقذف في قلوب أعدائهم الرعب" [ فتح القدير للشوكاني].
فمع هذا الحب من المؤمنين لهم ، تجدهم غصة في حلوق أعداء الدين فتجدهم يحارَبون ويضطهَدون ، لا لشيء إلا لأنهم يحملون مشاعل النور إلى الخلق ، وكم من أناس لا يحسنون إلا العيش في الظلام ! {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[البقرة : 257].
{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) } [المائدة : 15 ، 16].
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }[الأنعام : 122].
وإن المرء لا يعجب من عداوة أعداء الله لهؤلاء الذين قذف الله حبهم في قلوب عباده بغير طلب منهم إنما لما لهم من أعمال صالحة ومتابعة للشريعة أو لما لهم من قوة علمية وبصيرة ، وقوة عملية وهمة ، ولا يعجب من إطلاق ألسنتهم فيهم ؛ إنما يعجب من كلام بعض هؤلاء الصالحين في بعض !!
إنها سنة الله ! حتى لا يفتن تابع بمتبوع ، وحتى تبقى العصمة لأنبياء الله ورسله ، وحقا ما قيل أن " كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به وما علمت عصرًا سلم من ذلك أهله سوى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم" [فيض القدير ].
وقد ورد معنى هذا عن الصحابة -رضوان الله عليهم- فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: خذوا العلم حيث وجدتم ، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض، فإنهم يتغايرون.." [جامع بيان العلم وفضله (2 / 151)].
ورحم الله الإمام الذهبي إذ يقول : "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به ، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد ، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرًا من العصور سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس"[ الميزان (1/ 111) ، ولسان الميزان (1 / 508)].
هؤلاء الصالحون يبصرون الناس بما آتهم الله من نور الوحيين ، إلا أنه ربما وقع بعضهم في ما يحذِّر منه الناس ، فلم يغب يومًا ما عن أذهانهم قول إمامهم وإمام الدنيا أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله فيما ينقله عنه الذهبي رحمه الله في السير ، قال أحمد : "لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا" [تهذيب الكمال (2 / 381)].
فما زال أهل العلم يخالف بعضهم بعضا ، ورغم أن أهل العلم عدول كل جيل فإنه "يرث هذا العلم من كل خلف عدوله" [رواه البزار ، والبيهقي ، وابن عساكر ، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح] ،لكن قد يدخل الحسد إلى قلوب بعضهم فيتكلم في أخيه من أهل العلم غيرةً كما قال ابن عباس ، أو حسدًا أو لمذهب ، وعُدْ واقرأ بعين بصيرتك كلام الذهبي .
وما قد يصدر من بعض هؤلاء الصالحين في حق بعضهم من كلام شديد فإنه لا يقتدى بهم فيه ، ولا يروى بل يطوى ، فقد قعّد سلفنا رضوان الله عليهم هذه القاعدة العظيمة " كلام الأقران يطوى ولا يروى".
فقد بينوا بهذه القاعدة الجلية أن كلام الأقران في بعضهم البعض يطوى ولا يروى ، فإن كانت دوافع الذم والنقد منافسة وحسدًا ، أو مخالفة وبغضًا فإنها لا تقبل على علاتها وبدون نقد وتمحيص ، ورحم الله ابن جرير حين قال: "لو كان كل من ادعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما دعي به ، وسقطت عدالته ، وبطلت شهادته بذلك لزم ترك أكثر محدثي الأمصار". فـ"لو سمعنا كلام الأقران بعضهم في بعض لاتسع الخرق"[الوافي بالوفيات]يقول صاحب الوافي معلقًا: "قلت: هذا هو الأنصاف فقد سمعت أنا وغير واحد غير مرة من الشيخ أثير الدين الطعن البالغ والإزراء التام على الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد وهو شيء خلاف الإجماع لصورة كانت بينهما"[الوافي بالوفيات].
وتراث المسلمين في ذلك يعيى على العادّ ، وهم في ذلك ينفون عنهم الخبث.
وسبحان الله !كم جرّت هذه العداوة من شر على المسلمين ! وكم خسر المسلمون بسببها علمًا وفقهًا كبيرًا ، فلماذا سجن شيخ الإسلام ومات سجينًا بين الجدران ، طليقًا في الجنان ؟! الجنان التي ما فتئ يحدث عنها في دنيا الناس التي من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ، نحسبه صالحًا والله حسيبه .
ولماذا صرف محمد بن يحيى الناس عن أمير المؤمنين في الحديث ، البخاري إمام الدنيا وجبل الحفظ رحمه الله ، أكانت جريرته أن الْتَفَّ طلبة العلم حوله ؟! أكانت خطيئته هي حب الناس له ؟! إنما كان ذلك " من دون أن يطلبوه بالأسباب التي توجب ذلك "!! أم كان ذنبه وخطؤه أنه كان متابعًا للشريعة المحمدية ؟ وأظن أن ذنبه لم يكن هو تأليف كتابٍ – كتاب خلق أفعال العباد – ينتصر فيه لمذهب أهل الحق .
وربما حمل بعض أهل العلم لواء الشريعة في وقت الإحراق ، ونافحوا عن عقيدة أهل السنة في وقت الشدة والمحنة والتعذيب والتشريد وصولة الباطل وانتفاشه ، وصوب أعداء الإسلام والحاقدون سهامهم نحوهم ، لمّا كانوا ثابتين على قضاياهم ، لم يروموا عنها بديلا ، ولم يرضوا عنها تحويلا ، في وقت لم يثبت كثير من الصالحين وزلزلوا - أو كادوا - عن قضايا وثوابت دينهم زلزالًا شديدًا..لقد كان الطغيان مستأسدًا ..
ولما آذن الله بالفتح لم يسو تعالى بين من أنفق من قبل الفتح وقاتل{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }[الحديد : 10] ربما عانى من أنفق من بعد الفتح وقاتل لكنه ليس كعناء من أنفق من قبل وقاتل .
ويالشدة غربة الغريب إذا ساعد عليها غريب مثله !! ويالنفثة المكظوم ظلما إذا جحده محبوه وجازوه جزاء سنمار!!
لله دره الفاروق يا له من وفي ، لمّا قبل رأس عبد الله بن حذافة حينما أنقذ المسلمين من العذاب أو القتل ، فما أحوجنا أن نقبل رءوسًا لمن أنقذ جيلًا من شبابنا من عذاب البدعة أو اغتيال قلوبهم على أيدي أهلها .
ولله دره مرة أخرى لوفائه ، فلما دخل عليه خبَّاب بن الأرتْ رضي الله عنه ، فأجلسه على متكئه وقال: ما على الأرض أحد أحق بهذا المجلس [ أي إمرة المؤمنين ] من هذا إلا رجل واحد. قال له خباب: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: بلال. [ لعذابه في الله ] فقال خباب: ما هو بأحق مني، إنَّ بلالاً كان له في المشركين من يمنعه الله به ، ولم يكن لي أحد يمنعني، فلقد رأيتني يوماً أخذوني فأوقدوا لي ناراً ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجلٌ رجله على صدري فما اتقيت الأرض ــــ أو قال: برد الأرض ــــ إلا بظهري؛ قال: ثم كشف عن ظهره فإذا هو قد برص..
وقد أنبأنا الله في كتابه عن قوم طلبوا بأنفسهم الجهاد وحرم بعضهم من نصر الله ، وتأخرت منته عليهم جميعًا بسبب تحاسد الأقران قال عز من قائل سبحانه {ألَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة : 246 ، 247] إن الله يؤتي ملكه من يشاء ويقذف في قلوب العباد حب من يشاء ويرفع من يشاء ويخفي ذكر من يشاء .
و في الحديث الصحيح قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "ولا أحدٌ أحَبُّ إليه العُذْرُ مِن اللهِ، ومِن أَجْلِ ذلك بعَث المُبَشِّرين والمنذِرِين" [أخرجه البخاري (7416) ، ومسلم (1499)].
لئن نصح أهل العلم الأجلاء صغار طلبة العلم أو كبارهم بعدم الغلو في الصالحين ، وبعدم التعصب المذموم لعالم مهما علا شأنه ، فعلى طلبة العلم أن يستجيبوا ، رفعًا لراية التوحيد وحماية لجنابه ،فكل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب القبر ، صلى الله عليه وسلم .
وعليهم كذلك أن يستجيبوا لقول نبيهم صلى الله عليه وسلم من حديث تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "الدِّينُ النَّصِيحَةُ" قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَالَ : "لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ "[ رواه مسلم (55)] ، فلابد أن ينصحوا لأهل العلم فهم من أئمة المسلمين .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المائدة : 8].
وقال تعالى : {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [الحشر : 10]
وليت شعري .. أمحبة الناس للصالحين منحة لهم أم محنة ؟!!
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .