كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالاعتكاف فرصة عظيمة لتربية النفس ومداواة أمراضها، وإعدادها وتهيئتها للانطلاق على الصراط المستقيم، وإعادة التوازن بين الحاجات الإنسانية المختلفة في الظاهر والباطن؛ فليس احتياج المرء إلى مطعم ومشرب، ومسكن، وعمل، وزوجة، ومال، وجاه فقط!
بل حاجته أعظم إلى أن يجد طريقه إلى حب الله، والخوف منه ورجائه، وحسن الظن به، وصدق التوكل عليه، والإخلاص له، واليقين بوعده، وهو في حاجة إلى تحصيل الساعات الثلاث التي ترغمنا الحياة المعاصرة بمشاغلها ومشاكلها وصراعاتها على إهمالها والغفلة عنها؛ أعني: "ساعة يحاسب فيها المرء نفسه"، و"ساعة يناجي فيها ربه"، و"ساعة يتفكر فيها في صنع الله".
بل لم تعد حياتنا في الأغلب -إلا من رحم الله- إلا الساعة الرابعة: "ساعة المأكل والمشرب والمنكح" -المحسن منا مِن يأتيها بالحلال-.
فالاعتكاف فرصة عظيمة لإعادة التوازن المفقود؛ خصوصًا أننا في مرحلة حساسة هي مفترق طرق لدعوتنا ولبلدنا، بل ولأمتنا؛ فإن "مصر مركز الثقل" في العالم العربي والإسلامي، وتغيرها إلى الأفضل "كتابة للتاريخ من جديد"، وتدهورها وانهيارها ضياع لأجيال متتابعة من أبناء الأمة الإسلامية في المشارق والمغارب، وهي لن تتغير إلى الأفضل إلا بتغير أبنائها، وصلاحهم وإصلاحهم، وليس على الساحة أولى بهذا مِن أبناء الدعوة السلفية والمنهج السلفي، ثم جميع العاملين على الساحة الإسلامية.
فالبناء الداخلي هو الأساس، وثقل كفة الأمة الإسلامية إنما هو بثقل الإيمان في قلوب أفرادها أتباعًا ومتبوعين، وإذا كان الإمام قد ترتج عليه القراءة؛ لأن بعض المأمومين لا يحسن الوضوء؛ فكيف بخلل القرارات المصيرية في القيادة؛ لعدم إحسان الإيمان؟!
وكيف تنقص البصيرة لدى مَن يتحمل مسئولية أجيال بأسرها بفساد القلوب وانتشار الأمراض فيها؟!
لذا أؤكد أن اعتكاف هذا العام خصوصًا فرحة لا تعوض؛ لإصلاح النقص وسد الخلل؛ عسى الله أن يرى منا ما يحب فيدفع عنا ويدافع عنا، ويتقرب منا أضعاف ما نتقرب إليه، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى- أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) (رواه البخاري ومسلم).
وقد رأيتُ عبر تجربة -أظنها ناجحة- في سنوات مضت.. ضرورة الاهتمام بأمور معينة في الاعتكاف تكون عونًا للمعتكفين ومسئولي الاعتكاف على الوصول إلى الغاية المنشودة من التربية والإصلاح:
أولها: الاهتمام بالقرآن العظيم، ليس كمًّا فقط، وحرصًا على ختمات عديدة هذًا كهذّ الشعْر كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه- لمن قال له: "إني لأقرأ المفصل في ركعة"!
ولكن تدبرًا واستخراجًا للمعاني الإيمانية، والوقوف مع الآيات، ويمكن أن يكون درس التفسير من "ابن كثير"، أو "تفسير السعدي" بعد الفجر، على ألا يزيد على 20-25 ق؛ لإتاحة الفرصة للأذكار.
وأقترح "سورة مريم" أو "سورة يوسف" أو شيئًا من "سورة الأعراف" أو "سورة القصص"، ويمكن الاستعانة في مسألة الفوائد الإيمانية والتدبر بأشرطة اعتكاف الأعوام السابقة الموجودة بالموقع، وأشرطة الخطب والتفسير لهذه السور، وكلها موجودة -بحمد لله-.
ثانيها: الاهتمام بالعبادات القلبية، وتنقية النفس من أمراضها، وعلاجها بالشفاء الرباني: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا) (الإسراء:82)، وننصح بكتاب "العبادات القلبية" -وقد سبق شرحه-، وكتاب "البحر الرائق"، ويمكن أن يكون في كلمة الراحة بين ركعات القيام.
ثالثها: الاهتمام بالسيرة النبوية، وأحاديث القصص النبوي عظيم الأثر في التربية، وسيرة الأنبياء في القرآن، وننصح بكتاب "وقفات تربوية في السيرة النبوية"، أو "قصة يوسف"، أو "قصة أصحاب الأخدود"، أو مقتطفات من "زاد المعاد": كـ"فوائد غزوة أحد"، و"فتح مكة"، و"الحديبية"، ويمكن أن يكون في درس العصر لمدة نصف ساعة.
رابعها: القضايا المنهجية التي تحدد معالم المنهج السلفي: كـ"فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، و"مناهج التغيير"، و"العمل الجماعي"، و"العمل السياسي"، ويمكن أن توزع الكتب والمقالات المصورة مِن "صوت الدعوة" على الإخوة المعتكفين؛ للقراءة الشخصية، مع جعل جلسات للمناقشة لمن قرأ ثلث ساعة بعد الظهر.
فهذه بعض المقترحات، أسأل الله أن تجد قبولاً، وأن يجعل الله فيها نفعًا لإخواننا في اعتكافهم.
www.salafvoice.comموقع صوت السلف