جنة الإعتكاف ومحراب الإيمان
كتبه/ زين العابدين كامل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمنذ أن قامت الثورة في مصر ونحن في أحداث متتالية وسريعة، وكأن الأحداث تتسابق مع الزمن، لا يكاد الإنسان ينتهي من حدث إلا ويُفاجَأ بحدث آخر... حتى أصيبت القلوب بشيء من الفتور، بل ومن الغفلة أيضًا.
فما أحوجنا في مثل هذه الأيام المباركة أن نخلو بالله -جلَّ وعلا-؛ لا سيما ونحن نعيش في عالم ملأه الضجيج والاضطرابات والفتن.
ما أحوجنا إلى محراب الإيمان... !
ما أحوجنا إلى أن نركن إلى زاوية الفكر والذكر؛ لنصلح من أحوالنا، وهذا يتحقق في "الاعتكاف".
وقد ذكر الله الاعتكاف في القرآن العظيم، فقال -سبحانه وتعالى-: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد) (البقرة:187).
ومعنى الاعتكاف هو: لزوم المسجد لطاعة الله -تعالى-، وقد حافظ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعن عائشة -رضي الله عنها-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ" (متفق عليه).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا" (رواه البخاري).
والاعتكاف من الشرائع القديمة أيضًا، قال الله -تعالى-: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة:125).
وهذا يدل على فضل الاعتكاف؛ لأن الله أمر إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- بهذا التطهير؛ لأجل هؤلاء، وكذلك اقترانه مع الطواف والصلاة -وقد عُرف فضلهما-.
وما أروع ما قاله الزهري -رحمه الله-: "عجبًا للمسلمين تركوا الاعتكاف مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله -عز وجل-!".
الاعتكاف: تدبر وتلاوة، لذة وحلاوة، ينصرف الناس إلى بيوتهم بعد صلاة التراويح كل واحد يخلو بزوجه، والمعتكف يخلو بالله -تعالى-.
الاعتكاف: زيادة في الإيمان واقتراب من الواحد الديان، المعتكف قلبه معلق بالمسجد يذكر الله خاليًا فتفيض عيناه بالدموع؛ فمن أراد زيادة الإيمان والقرب من الرحمن فعليه بالاعتكاف، من أراد القيام بالليل والناس نيام فعليه بالاعتكاف.
الاعتكاف: جنة من الجنان؛ لأنك تجد فيها لذة الأنس بالله -تعالى-... في الاعتكاف تسمو الروح وتصفو النفس.
الاعتكاف هو: انفطام النفوس عن رضاع الهوى.
قال عطاء -رحمه الله-: "مَثَلُ الْمُعْتَكِفِ كَمَثَلِ رَجُلٍ لَهُ حَاجَةٌ إلَى عَظِيمٍ فَيَجْلِسُ عَلَى بَابِهِ، وَيَقُولُ: لا أَبْرَحُ حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتِي وَالْمُعْتَكِفُ يَجْلِسُ فِي بَيْتِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَيَقُولُ: لا أَبْرَحُ حَتَّى يَغْفِرَ لِي فَهُوَ أَشْرَفُ الأَعْمَالِ إذَا كَانَ عَنْ إخْلاصٍ".
وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في لطائف المعارف: "وإنما كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، يعتكف في العشر قطعًا لأشغاله، وتفريغًا لباله، وتخليًا لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وكان يحتجر حصيرًا يتخلى فيها من الناس".
ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس، ولا حتى لتعليم علم أو إقراء قرآن؛ بل الأفضل له الانفراد بنفسه، وهو الخلوة الشرعية لهذه الأمة، وإنما كان في المساجد؛ لأنه لا يترك به الجمعة والجماعات.
كان بعضهم لا يزال منفردًا في بيته خاليًا بربه، فقيل له: أما تستوحش؟ قال: كيف استوحش وهو يقول: "أنا جليس من ذكرني".
وكان داود الطائي يقول في ليله: "اللهُمَّ هَمُّكَ عَطَّلَ عَلَيَّ الْهُمُومَ وَحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ السُّهَادِ، وَشَوْقِي إِلَى النَّظَرِ إِلَيْكَ مَنَعَ مِنِّي اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ".
الاعتكاف هو: إخلاء للقلب من الشواغل عن ذكر الله، والتفرغ لعبادة الله بالتفكر والدعاء، والذكر والاستغفار، وقراءة القرآن والصلاة، والتوبة والانكسار.
فهنيئًا للمعتكفين!
فقد أقبلت أيام اللقاء... أيام الصفاء... أيام الحنين...
أقبلت أيام الاعتكاف؛ فحنت لها قلوب المحبين.
أتــترك مــن تـحـب وأنت جار وتـطـلـبهـم وقـدْ بـعُـد الـمـزارُ
وتـبـكـي بـعد نأيهـم اشـتـيـاقـًا وتسأل في المنازل أين ساروا
تـركـت سـؤالهم وهم حـضور وتــرجـو أن تـخــبـرك الـديـارُ
فـنفسـك لـُمْ ولا تلُم المـطـايـا ومتْ كمـدًا فـلـيس لـك اعتذارُ
فجدير بنا أن نتنبه حتى لا نندم بعد فوات الفرصة العظيمة من بين أيدينا، سنعض أصابع الندم عضًا شديدًا إن نحن فرطنا في هذه الأيام التي نحن فيها، والليالي التي نحن نتفيأ ظلالها، ونستنير بأنوارها، ونترقب فيها ليلة القدر العظيمة.
قال الإِمام ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد": "لمّا كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إِلى الله -تعالى- متوقفًا على جمعيته على الله، ولم شَعثه بإِقباله بالكلية على الله -تعالى- فإِن شَعَثَ القلب لا يَلُمُّه إلا الإِقبال على الله -تعالى-، وكان فُضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، ممّا يزيده شَعَثـًا، ويُشَـتـِّتـُه في كلِّ وادٍ، ويقطعه عن سيره إِلى الله -تعالى- أو يُضعِفُه، أو يُعوِّقُه ويوقفه؛ اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أنْ شَرَعَ لهم من الصوم ما يُذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إِلى الله -تعالى-.
وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأُخراه ولا يضره، ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة. وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله -تعالى- وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده -سبحانه- بحيث يصير ذكره وحبه والإِقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به... "اهـ.
لذا ينبغي على المعتكف أن يراعي في اعتكافه تحصيل هذه المطالب العظيمة:
- التفرغ لعبادة الله وعدم مخالطة الناس.
- تحري ليلة القدر.
- إصلاح القلب وتربية النفس.
- التحلي بالصبر الجميل، والصفح عن إخوانه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
www.anasalafy.comموقع أنا السلفي