كتبه / الشيخ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
((اللحم والذباب))
أثارت تصريحات مفتي استراليا التي وصفت فيها المتبرجات بـ "اللحم العاري الذي يجذب إليه الذباب" حفيظة كثير من الدوائر المعنية بحقوق الإنسان في استراليا، كما أثارت هذه التصريحات حفيظة كثير من المنتسبين إلى الإسلام ولكن قلوبهم غربية ومشاربهم إفرنجية.
وقد تزامن ذلك مع حدوث واقعة يندى لها الجبين في عيد الفطر، حينما أقدمت فتاتان أرادتا أن تطبقا ما تسمعانه في وسائل الإعلام ليل نهار عن الجرأة المحمودة للفتاة ومزاحمتها الرجال في كل ميدان، فزاحمتا الرجال على شباك تذاكر السينما، وكان ذلك كافياً لكي تجتمع الكلاب على الفريسة.
وكان ما كان مما صورته كثير من مواقع الإنترنت التي يحررها محررون "متحررون" من دينهم أنه كان حفلة تحرش جنسي جماعي بكل النساء في الطرقات لا فرق بين متبرجة ومحجبة بل ولا منقبة، ولا فرق بين من تسير مع زوجها أو أبيها أو أخيها، ولم يقدموا تفسيراً واضحاً لعدم رصد أي محاولة دفع من الآباء والأزواج والإخوة عن أعراضهم في حالة صحة هذه الروايات التي لفقها هؤلاء لكي يسدوا الباب أمام أن تكون هذه الحوادث عبرة للفتاة المسلمة أن تعود على حجابها، وأن تهجر أماكن الفسق الفجور.
((وقامت الدنيا))
أقام القوم الدنيا ولم يقعدوها، ونحن معهم لو كانت هذه القومة من أجل الدعوة إلى منع مهيجات السعار الجنسي عن الشباب والفتيات ومنها السينما، ونحن معهم لو كانت الدعوة إلى عودة شبابنا وفتياتنا إلى الفضيلة فيلتزم هؤلاء بغض البصر، ويلتزمن أولئك بالحجاب.
وأما أن تتحول الدعوة إلى حماية حق الفتاة في الذهاب إلى السينما، بل ودخول الأفلام التي تفوح الإسقاطات الجنسية في إعلاناتها ثم المزاحمة على شباك التذاكر فلا. وعندما وجد بعض العقلاء الذين يقولون: إن اللوم يقع (ابتداء) على هؤلاء الفتيات، حذف دعاة الفتنة كلمة (ابتداء) أو ما في معناها وراحوا يصيحون ويشغبون: أنتم تلومون الضحية وتدافعون عن المجرم.
((ريبة بمائة جلدة))
وتزامن هذا أيضاً مع حكم أصدرته إحدى المحاكم السعودية في واقعة اغتصاب، رأى القوم فيه دليلاً آخر على أن المتشددين يعاقبون الفتاة الضحية، وخلاصة القصة أن "الفتاة المغتصبة كانت في موضع ريبة مع شاب فجاء سبعة آخرون فاغتصبوها".
وكان الحكم بجلد المغتصبين كل واحد ألف جلدة تعزيراً لكونهم غير محصنين، ولأن المحكمة قد رأت أن حد الحرابة لا ينطبق عليهم، وكما قضت بجلد المغتصبة وصديقها كل مائة جلدة لوجودهما في موطن ريبة، ورغم وضوح علة الحكم على المغتصبة إلا أن القوم راحوا يسخرون من هذا الحكم الذي يعاقب الضحية فيما يرون.
((ميزان الحرية الشخصية))
وفي واقع الأمر أن القوم يؤمنون بما يؤمن به أسيادهم في أوربا، ومن ثم يقيسون الأمور بهذا المقياس، وهو ميزان الحرية الشخصية الذي يعطي الفتاة الحرية ليس في التبرج فقط، بل وفي الزنى وفي الفجور، ومتى تبرجت المرأة فللرجل أن يتلذذ بالنظر إليها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ لأنها قد أباحت زينتها للناظرين، ومتى تحركت شهوته وطلب ما هو أكثر من مجرد النظر فعليه أن يستعين بحيل أبطال الأفلام العاطفية في الإيقاع بفرائسهم، وليكن حذر فإنه إن لم يحكم شباكه جيداً ربما يجد نفسه متهماً بتهمة تحرش جنسي يكون هو متهمها الأول والأخير، وإن وصل إلى مقصوده فأفسدها وأفسدته فهذا هو غاية المنى عندهم وليس في الأمر ثمة جريمة لكي يتحركوا من أجلها.
هذه هي شريعة الغرب التي فرضها القوم قانوناً حاكماً في بلاد المسلمين، وها هم يريدون أن يفرضوها عرفاً قائماً في مجتمعاتهم.
((حكم الله))
ولا يخفى على من له أدنى إطلاع على دين الله أن الجرائم المتعلقة بالعرض في دين الله هي جريمة في حق الشرع ابتداءً، ثم إن كان أحد الطرفين غاصباً للآخر فهي جريمة جديدة من المغتصِب في حق المغتصَب، ولذلك فإن الزنى بتراضي الطرفين جريمة مشتركة بينهما، وكذا "الزنى الأصغر" بتراضي الطرفين مثل التبرج من المرأة والنظر من الرجل هي جريمة مشتركة، وأما التلصص على العورات فهو جريمة من مرتكبها في حق الله وفي حق المتلصص على عورته وهكذا.
ومع أن هذه المسئولية في هذه الجرائم المشتركة شبه متساوية حيث سوى الشرع بين عقوبة الزاني والزانية، إلا أنك تلمح في تقديم الزانية على الزاني في قوله -تعالى-: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ )(النور: من الآية2). أن المرأة هي المنبع الذي إذا أصلح كان الصلاح على الرجل أسهل، وإذا فسد كانت الفتنة على الرجال أشد، مع أن هذا لا يبيح لهم الاستمتاع المحرم بمن أباحت نفسها فضلاًًًًًًًًً عمن لم تبح، وهذا هو الذي أراد مفتي استراليا أن ينبه الناس إليه أن اللحم العاري يجذب إليه الذباب، وأن اللحم المغطى لا يضره وجود الذباب من عدمه، فكانت غضبة القوم دفاعاً عن منهجهم الذي أشرنا إليه آنفاً، ولكنهم غلفوه بغلاف وجوب الدعوة بالحسنى وعدم تجريح الناس ومراعاة مشاعر المتبرجات، مع أن الرجل يعظ المسلمات اللاتي يحتجن إلى الترغيب في الطاعة والتنفير من المعصية، وتجريد مثل هذه الصور وضرب الأمثال هو نوع من ذلك كما قال -تعالى-: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ)(الحجرات: من الآية12)، والقوم لا يحتجون على هذه الآية لأنهم لا يرون في تحريم الغيبة خطراً على منهجهم الغربي، ومن ثم يقبلون بمبدأ الترهيب منها عن طريق هذا التشبيه المنفر الذي نسج مفتي استراليا على منواله مثاله في التبرج.
وربما ثارت حفيظة القوم من ضرب المثل بالذباب لاسيما إذا كان الخطاب موجهاً لمن يعيشون في أوربا وأمريكا واستراليا الذين لا تكاد تجد في طرقاتهم ذبابة واحدة، وما درى القوم أن ذباب الأعراض أشد خطراً وأكثر قذارة من ذباب القمامة لو كانوا يعلمون!
((مثال آخر))
ولهذا السبب، ولأن القوم يعرفون لغة المال أكثر من معرفتهم بلغة العرض فسوف نضرب لهم مثلاً آخر يلتقي في معناه مع مثل مفتي استراليا، ويكون أكثر قرباً من عقول القوم.
من المتفق عليه بيننا نحن المسلمين وبين الغرب أن أكل مال الغير بالباطل من الأمور المنكرة في الجملة، ومع الاتفاق على إلحاق اللوم والذم والعقاب على آكل مال الغير بالباطل، إلا أن هناك أحوالاً يذم ويلام ويعاقب صاحب المال المعتدى عليه.
فهناك حالة "سفه" عند البعض تقابل بحالة "طمع وجشع" عند آخرين، وهذه تشبه حال التي تبيح عرضها سفهاً منها وعدم دراية بعاقبة ذلك في الدنيا والآخرة، ويجب أن يؤخذ على يدي كل من الطرفين،
وهناك حالة "إهمال" تقابل بحالة "نهب" عند آخرين والمهمل في حفظ ماله لم يتركه لغيره سفهاً، وإنما أغرى الغير عن طريق تركه لماله بغير حفظ كاف ولذلك أتى الشرع بقطع يد السارق ولم يأت بقطع يد المنتهب الذي يخطف الأشياء الغير محرزة مع استحقاقه للعقوبة في الجملة إلا أن صاحب المال شريك معه في الجريمة.
وإهمال المرأة في ستر نفسها أشد خطراً من إهمال الناس في حفظ أموالهم، لأنه لا يفسر عادة على أنه إهمال، بل على أنه دعوة إلى نفسها، ولذلك تجد أن معظم قضايا التحرش الجنسي والاغتصاب تدور حول امرأة تتيح جزءً من عرضها، بـأن تتزين للناظرين مثلاً، ويظن الظان أنها أباحت كل عرضها، أو تبيح عرضها لشخص ما فتتواجد في مواطن الريب فيظن الظان أنها لن تمانع من أباحته لغيره فتقع الكارثة، وإلى هذا أشار قوله -تعالى-: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ)(الأحزاب: من الآية59).
وأما من حفظ ماله "الحفظ التام" ثم جاء من "دبر وتربص" واستولى عليه فهذه هي الجريمة التي يسأل عنها المجرم وحده، ولذلك جاءت عقوبتها في شرعنا قطع الأيدي الذي تشمئز منه نفس هؤلاء المعترضين على وصف حال المتبرجة مع الناظر إليها بحال "اللحم العاري مع الذباب".
ولذلك جاء الشرع بعقوبة مقررة على الزاني والزانية بالتراضي بينما تزداد العقوبة في حق المغتصب على تطبيق حد الحرابة عليه، إذا شهر من أجل ذلك سلاحاً، أو إلى تعزيره بما يراه القاضي رادعاً، وقد تقدمت الإشارة إلى حكم محكمة سعودية بجعل هذا التعزير ألف جلدة.
((نصيحة واجبة))
ولذلك -وعلى افتراض صدق الروايات التي تقول:إن التحرش الجنسي قد طال محجبات ومنقبات يسيرون مع الأزواج والآباء- نقول: إن هؤلاء مقصرون بالتواجد في أماكن النساء والفجور لاسيما في ذلك الوقت الذي يعلم الجميع ما يكون فيه من تحرش برضا الطرفين "كاللحم العاري مع الذباب".
ومع ذلك نحن لا ننكر وجود مع يعتدي عليها بغير ما ذنب منها، كما لا ننكر وجود من يسرق ماله رغم حفظه له، وهذه وذلك يحب أن يعاملا معاملة المصاب الذي تتضافر الجهود في مواساته على مصابه المادي والأدبي، ولكن وكما أن وجود حوادث السرقة يجعل أصحاب الأموال يزدادون في حفظها، فكذلك وجود حوادث الاعتداء على الأعراض يجعل المرأة تزداد حفاظاً على عرضها.
وإذا كان العلمانيون بأخبارهم تلك يريدون منا أن نزهد في حجاب نسائنا من باب أنه لم يمنع من التحرش بهن، فإننا نقول لهم: لو صحت رواياتكم فإننا سوف نلزم المسلمات الصادقات بأعلى درجات الحجاب ألا وهو القرار في البيت (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِالأُولَى )(الأحزاب: من الآية33).
فالمسلمة إما أن تقر في بيتها وإما أن تخرج متقية بثيابها الذباب، وأما من أراد من الرجال والنساء أن يعيشوا حياة "اللحم العاري مع الذباب" فسنظل ندعوهم على النجاة رغم أنهم يدعوننا على النار (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) غافر