مقارنة بين نظام الخلافة وبين الدولة الحديثة ذات المرجعية الإسلامية
م. عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالإضافة إلى كونه الرسول المبلِّغ عن الله، هو الحاكم للأمة، والقائد الذي يعقد المعاهدات ويحرِّك الجيوش، وهو القاضي الذي يقضي بيْن الناس في خصوماتهم.
وبوفاته -صلى الله عليه وسلم- انقطعت النبوة، واحتاجت الأمة إلى مَن يخلفه في الحكم، وأجمع الصحابة على ذلك حتى إنهم قدَّموا اختيار خليفته في الحكم على تغسيله وتجهيزه -صلى الله عليه وسلم-، ومِن ثَمَّ أجمعت الأمة على وجوب تنصيب الخليفة.
وانطلاقًا مِن نصوص شرعية عامة تتبين بعض القوانين، وعلى رأسها:
1- وجوب تحكيم شرع الله -تبارك وتعالى- على الحاكم والمحكوم: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ... ) (المائدة:49).
2- وجوب طاعة ولي الأمر ما أطاع الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59).
3- لزوم الشورى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران:159)، (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى:38).
4- ضرورة أن يكون للمسلمين إمام واحد ما أمكن: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران:103).
5- وجوب إنكار منكرات الحكام لدخولهم بصفة عامة في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ) (رواه مسلم)، والنص عليهم خاصة في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
وإنكار منكرات الحكام شأنه شأن غيره من حالات إنكار المنكر يُراعى فيها "المصالح والمفاسد"؛ إلا أن المفاسد المتوقعة مِن إنكار منكرات الحكام الظلمة قد تكون أشد من غيرها؛ لذلك حذَّر منها العلماء، وظن البعض أن هذا إغلاق لباب الإنكار على الحكام تمامًا! وهذا مخالف للنصوص النبوية، ولسيرة الصحابة والتابعين، وغاية ما فيه هو أخذ الحيطة التي تناسب الضرر المتوقع.
وانطلاقًا مِن هذه الأصول العامة استنبط علماء الأمة نظامًا سياسيًّا كاملاً، طبقته الأمة لقرون عديدة... كانت أهم ملامحه الآتي:
1- الإمامة وظيفة شرعية يُراد بها: "حفظ الدين، وسياسة الدنيا بالدين".
2- هذه المهام في الأصل هي مهام للأمة ككل، وهي: "إما فروض كفايات أو سنن كفايات"، وقد جاء النص القرآني عادة في هذه الأمور بخطاب الجمع: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ... ) (المائدة:38)، (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ... ) (آل عمران:104)، إلى آخر ذلك... ثم جاء الأمر للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ... )، والتطبيق العملي منه -صلى الله عليه وسلم- يقرر قاعدة الوكالة بين الأمة والحاكم.
3- ومِن خلال بيعة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، وجماعة الشورى التي أسند إليها عمر اختيار الخليفة تَمَهَّد للأمة مفهوم "أهل الحل والعقد"، وهم الذين يتولون اختيار الحاكم نيابة عن الأمة، ثم يقومون بعد ذلك بالدور الأكبر في مراقبة الحاكم وعزله إذا لزم الأمر، ويجب على الأمة ككل أن تساهم في هذا الدور؛ إلا أن قرار عزل الحاكم يرجع إلى مَن ولاه.
ومما سبق، يتضح أن النظام الإسلامي رغم أنه يجمع السلطات في يد الحاكم إلا أنه لم يكن كالنظم الديكتاتورية التي كانت تعاني منها أوروبا؛ وذلك لعدة أمور...
منها:
1- أن الحاكم مقيد بالشرع، فإذا كانت أصول التشريع العامة قطعية محسومة لا يملك تغييرها حاكم أو محكوم لم يكن هناك وسيلة للحكم المطلق "الذي مِن أهم وسائله التشريع" وفقًا لهوى الحاكم.
2- وجود "أهل الحل والعقد" كوسيط في تولية الإمام وعزله، وبالطبع الإنكار عليه فيما بينهما يحقق التوازن بيْن صلاحيات الإمام وبين واجباته.
3- الشروط الشرعية المشترطة في الإمام متناسبة مع ما سيُعطى له مِن صلاحيات فيجب أن يكون عدلاً في دينه مجتهدًا، وأن يكون ذا نجدة وكفاية.
وفي المقابل: عانى الغرب مِن نيران الديكتاتورية، وكافح قرونًا متطاولة مِن أجل التخلص من ديكتاتورية الحكام، والتي استندت في معظم أحوالها إلى استبداد ديني، وأنشأ ما يُعرف بالدولة الحديثة؛ لتكون عالمانية ديمقراطية على أنقاض نظام ديني ديكتاتوري، كما أنها قامت على أساس قطري بدلاً من أحلام التوسع الإمبراطوري الذي ورطهم في حربين عالميتين!
ومِن أهم أسس هذا النظام:
1- السيادة للشعب، وهو مصدر السلطات.
2- الفصل بين السلطات: "التشريعية - التنفيذية - القضائية"، وعدم تجميعها في يد فرد؛ لا سيما السلطات: "التشريعية والتنفيذية".
3- ومِن ثَمَّ أصبح الرئيس هو رأس السلطة التنفيذية، وبناءً عليه -وعلى قيام هذا النظام على أساس لا ديني- انحصر دور الرئيس في تحقيق العيش الكريم لأفراد شعبه.
4- توقيت مدة الرئاسة.
5- إسناد سلطة التشريع إلى مجلس وليس لفرد، ويأتي عبر الانتخاب.
6- قيام كل دولة داخل حدودها القطرية المحددة عرقيًّا أو تاريخيًّا.
وعلى الرغم من أن المسلمين لم يكونوا في حاجة إلى كل ذلك؛ فقد عمد الغرب إلى تفكيك الخلافة العثمانية واستبدالها بعدة دول قطرية محدودة، وكانت وعودهم الأولى بتكوين دولة عربية موحدة، ثم سرعان ما تلاشت وكوَّنوا تلك الدول المعروفة الآن، والأكثر من ذلك أنهم صدروا لهم نظام الحكم القائم على الدولة الحديثة، ومِن أسسها: "فصل الدين عن الدولة!".
وقامت نظم سياسية في تلك الدول لم تأخذ من تلك الدولة الحديثة إلا فصلها للدين عن الدولة بدرجات متفاوتة من دولة إلى أخرى، بينما مارست أشد أنواع الديكتاتورية باسم الديمقراطية!
وكافحت الحركة الإسلامية المعاصرة من أجل تحسين وضع الدول الإسلامية المعاصرة في اتجاهين:
الأول: محاربة العالمانية.
الثاني: محاربة الديكتاتورية.
وكان القدْر المتاح في محاربة العالمانية وفق النظام الدستوري هو إلزام السلطات التي تحددت وفق هذا النظام سواء التشريعية أو التنفيذية "والقضائية بالتبع لهما"، بعدم مخالفة الشريعة فيما يصدر عنهما من قوانين وقرارات فيما عُرف بنظام الدولة الدستورية القانونية الحديثة ذات المرجعية الإسلامية، وهذا النموذج من النظم السياسية ليس مطابقًا لنظام الإمامة الذي تكوَّن عبر تاريخ الأمة، ولكنه في ذات الوقت غير مصادم للقطعيات الشرعية وإن بقيت فيه مخالفات يمكن التغلب عليها.
وقد رأينا كيف يحاول "الإعلام المضلل" أن يؤثِّر على الناخبين؛ ليعادوا المشروع الإسلامي لتفرز آلية الانتخاب نظامًا عالمانيًّا، بينما كانت الدعوة إلى الله على ضعف الإمكانيات قادرة على التغلب على ذلك لتفرز آلية الانتخاب انحيازًا إلى المشروع الإسلامي؛ لا سيما على مستوى ذلك القيد الدستوري بمرجعية الشريعة؛ لأنه يبقى ملزمًا لجميع السلطات.
وأما قضية الخلافة كمفهوم جغرافي يشمل العالم الإسلامي كله: فأمثل الناس طريقة من يجعله من الأحلام المؤجلة التي لا يبدو أنه له وجود في المستقبل القريب -من ناحية الأسباب المادية- وإن كنا نرى ضرورة تعلمه وتعليمه، ونقله إلى الأجيال القادمة خلافًا لمن شطبه تمامًا من مشروعه.
وعلى أي... فعودة الخلافة لا بد وأن تمر بمراحل الإصلاح الداخلي في كل بلد من بلدان المسلمين عن طريق ضبط مرجعية النظم القائمة فيها بالإسلام، والتي يمكن بعدها الحديث عن اتحاد الجمهوريات الإسلامية، والبعض يقف بمستوى أحلامه عند هذا الحد، والبعض يتخطاه إلى الكلام على عودة الخلافة، وهو أمل نتمسك به لاستناده إلى وعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن القدر المتفق عليه تقريبًا بيْن الفصائل الإسلامية هو أن الإصلاح في المسارين اللذين ذكرناهما هما البداية.
وإذا كان الأمر كذلك فإن مِن الخطأ البيِّن والظاهر الذي يمكن أن يطيح بالتجربة الإسلامية بأسرها: "إنزال معنى الإمامة على واقع غير مطابق لها"، وهو خطأ وقع فيه فريق يُسمون إعلاميًّا: "بالمداخلة"؛ حيث أنزلوا النصوص الواردة في الإمام على الرؤساء، بل على رؤساء يُحارِبون المرجعية الإسلامية! بالإضافة إلى كونهم ظالمين: يسفكون الدماء، ويسرقون الأموال، وينتهكون الأعراض!
ثم لم يكتفوا بهذا حتى فسروا منع الخروج على أئمة الجور -الذي قصد به العلماء الخروج عليهم بالسيف حتى لا تراق الدماء- بما أسموه هم: الخروج بالكلمة؛ مما جعلهم يُسقِطون شعيرة الإنكار على الحكام جملة وتفصيلاً "ومِن ثَمَّ قبِلوا جميع الانحرافات التشريعية والإدارية، بل وبدع العبادات" طالما كانت صادرة عن إحدى مؤسسات الدولة!
وهؤلاء يصفون مَن ينكر على الحكام "فضلاً أن يعمل في مجال السياسة مِن الاتجاهات الإسلامية" بالخوارج!
وإن كان هؤلاء سوف يوضعون في اختبار صعب بعد وصول الإسلاميين "الموسومين عندهم سابقًا بالخروج" إلى أن يكونوا في إحدى سلطات الدولة.
فماذا سيفعلون معهم؟!
وهل سيعاملونهم معاملة ولاة الأمور كما عاملوا الطواغيت قبلهم أم ماذا؟!
ومن ناحية أخرى يخشى كثير من الأفراد والهيئات والمؤسسات أنه إذا تمكن فصيل إسلامي أو شخص إسلامي من الوصول إلى السلطة التشريعية أو التنفيذية أن يتم استدعاء بعض المفاهيم من نظام الإمامة مما يهدم النظام الدستوري الحديث، وبالطبع في هذه الحالة سوف يكون النظام نظامًا ديكتاتوريًّا لا يمثِّل نظام الإمامة، ولا نظام الدولة الدستورية الحديثة ذات المرجعية الإسلامية.
ومِن ثَمَّ فالواجب علينا جميعًا أن نعي النظام الذي التزمنا به، ولماذا التزمنا به؟ وأن نؤكد للجميع أن جميع فصائل العمل الإسلامي ملتزمة بالآليات التي تم الاتفاق عليها.
ويترتب على ذلك أمور:
أولاً: كل ما تقرر من واجبات، ومِن ثَمَّ حقوق الإمام في النظام السياسي الإسلامي هي الآن موزعة بين الرئيس وبين عدة مؤسسات، ومِن ثَمَّ فلقب الرئيس ليس مرادفًا ولا مكافئًا للإمام، ومِن ذلك:
1- حق إصدار القوانين -وبعد تقييدها بالشرع- هو الآن من صلاحيات البرلمان، وحق طاعة الإمام موجه بالأساس إلى هذه المهمة التي يقوم بها الآن أو بالقسط الأكبر منها مؤسسة كاملة هي البرلمان، ومِن أمثلة ذلك: حق تقييد المباح الذي أعطاه العلماء للإمام بشرط كونه عدلاً لا يستطيع رئيس الدولة في النظام الحديث فعله، وإنما غاية ما يمكنه أن يقدم مقترحًا إلى البرلمان ليصدر القوانين، ومن أمثلتها: "قوانين المرور"، وغيرها...
وغني عن الذكر أن من يملك هذا الحق لا يجوز أن يتوسع فيه حتى ولو كان "البرلمان"، كما فعل البرلمان المصري في النظام القديم وأقدم على وضع حد أدنى لسن الزواج مما يترتب عليه أن الزواج بعد سن البلوغ ودون الثامنة عشرة مأمور به شرعًا بينما هو مجرم قانونًا دونما حاجة شرعية معتبرة تتيح للإمام "في النظام الإسلامي أو البرلمان في النظام الحديث" أن يُقدِم على ذلك!
نعم، يملك الرئيس إصدار بعض القرارات، ولكنها مقيدة جدًا، وعمومًا: فالقاعدة فيها هي نفس القاعدة في أن: "الطاعة تكون في المعروف".
2- ومِن أهم الأمور التي خرجت عن صلاحيات الرئيس بينما كانت على رأس صلاحيات الإمام: هي مهمة "حفظ الدين"، وهي مهمة وفق نظام الدولة الحديثة موكولة إلى المؤسسة الدينية الرسمية، وهي في مصر: "الأزهر".
وحيث إن النظام الحديث يقوم على أن ما اصطلح على تسميته بمنظمات المجتمع المدني لا بد وأن تشارك المنظمات الحكومية الدور في كل مجال، وإن هذا مِن أهم أسباب منع الانحراف في السلطة؛ فإن "مهمة حفظ الدين" من أكثر المهام التي ينبغي أن يتأكد فيها هذا الأمر.
وقد رأينا كيف يوظف الظالمون المؤسسات الدينية، ويحرصون على تجريفها؛ لكي يكيفوا الدين وفق أهوائهم!
ومِن ثَمَّ فإن الواجب حتى في حالة وجود رئيس يؤمن بالمرجعية الإسلامية أن تنشط الجمعيات الخيرية الإسلامية "لا سيما مَن يتبنى الدعوة الشاملة والمشاركة السياسية" للقيام بدورهم على أكمل وجه، وفي هذا مساعدة ووقاية للمؤسسة الدينية الرسمية التي لا يستطيع الرئيس حتى ولو كان مؤمنًا بالمرجعية الإسلامية إلا أن يحاول أن يوفر لها المناخ المناسب للعمل وفقط، وأما التفاصيل فخارجة عن اختصاصه.
ثانيًا: نظام الإمامة يحفظ التوازن بين صلاحيات الإمام وواجباته من خلال "أهل الحل والعقد"، ومِن خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونظام الدولة الحديثة يفعل ذلك مِن خلال البرلمان، ومن خلال الأحزاب، ومِن خلال منظمات المجتمع المدني، ثم المراقبة الشعبية.
والواجب الحفاظ على هذه الآليات الحديثة جميعًا من باب:
- الوفاء بالعقود؛ لأن هذا عقد بين الرئيس والشعب.
- عدم تعرية النظام من عوامل التوازن التي فيه؛ لأن عند الإخلال بها مع عدم تطبيق مفهوم "أهل الحل والعقد" فينتج عن ذلك خلو النظام مِن هذا التوازن الضروري.
ثالثًا: المعارضة المادية لا وجود لها في نظام الإمامة، بل هي نوع من الخروج على الحاكم، ونعني بالمعارضة المادية: وجود فريق يصف نفسه بالمعارضة. وأما المعارضة الموضوعية: وهي الاعتراض على موقف خاطئ من الإمام فموجودة في النظامين.
ونظام الدولة الحديثة قائم على وجود معارضة مادية، وهم فريق آخر غير الفريق الذي في الحكم، ويتبنى رؤية مغايرة يسعى إلى تطبيقها إذا ما فشلت رؤية الفريق الحاكم، ومِن ثَمَّ أسقطه الشعب في الانتخابات، وفي أثناء ذلك فوجود المعارضة المادية يمثِّل أحد أهم جوانب التوازن في نظام الدولة الحديثة، وعندما يصل للحكم فريق يؤمن بالمرجعية الإسلامية فمن الطبيعي أن تنظم القوى العالمانية صفوفها، وأن تمارس معارضة مادية موضوعية ذات طابع أيديولوجي أمام الفصيل الإسلامي الحاكم.
ويجب على باقي الفصائل الإسلامية إذا ما كان نظام الدولة الحديثة يسميهم: "المعارضة"، أن تكون في مواقفها مطابقة للمعارضة الموضوعية، ومساندة للحق وهي أمر يعتبر في نظم الدولة الحديثة أمر مِن الأخلاق المثالية التي لا وجود لها في عالم التطبيق، ولكن يمكن للإسلاميين -بفضل الله- أن يوجدوه.
وأما تفريغ الساحة لأن تكون المعارضة الوحيدة "بالمعنى المادي السياسي" معارضة عالمانية صرفة؛ فهو إضعاف في واقع الأمر للنموذج الإسلامي وليس العكس.
رابعًا: يجب على الرئيس ذي المرجعية الإسلامية أن يفي بشروط عقده مع الشعب حتى في تلك الأمور التي يخالف فيها نظام الإمامة نظام الدولة الحديثة، مثل: توقيت العقد، وإن كان بعض المعاصرين يرى أن عقد الإمامة يقبل هذا التوقيت، ومثل عدم تعدي الاختصاصات، ومِن ثَمَّ يجب الإنكار على مَن عدل عن ذلك؛ لمخالفته لعقده؛ ولما يترتب على ذلك من ضرر بالغ بالتجربة الإسلامية بأسرها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.